أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، العَدلُ أَسَاسُ عِمَارَةِ الكَونِ ، بِهِ صَلاحُ
العِبَادِ وَحَيَاةُ البِلادِ ، وَعَلَيهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالأَرضُ ، وَمِن أَجلِهِ أَرسَلَ اللهُ الرُّسُلَ وَأَنزَلَ الكُتُبَ ،
وَلِتَثبِيتِهِ وَإِرسَائِهِ أَمَدَّ ـ سُبحَانَهُ ـ النَّاسَ بِالقُوَّةِ "
لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ
وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ وَأَنزَلنَا الحَدِيدَ فِيهِ
بَأسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ
وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ "
وَاللهُ ـ سُبحَانَهُ ـ هُوَ الحَكَمُ العَدلُ ، لا يَحكُمُ إِلاَّ
بِالحَقِّ ، وَلا يَقُولُ إِلاَّ الحَقَّ ، وَلا يَقضِي إِلاَّ بِالحَقِّ ،
وَقَد أَمَرَ ـ سُبحَانَهُ ـ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ ، وَنَهَى عَنِ
الظُّلمِ وَالطُّغيَانِ ، وَحَرَّمَ الظُّلمَ عَلَى نَفسِهِ وَعَلَى
عِبَادِه ، قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : {إِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُربى وَيَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ}[النحل:90]
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهلِهَا وَإِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَحكُمُوا بِالعَدلِ }[النساء:58]
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ}[فصلت :46]
وَقَالَ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ : « يَا عِبَادِي ، إِنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ عَلَى نَفسِي وَجَعَلتُهُ بَينَكُم مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " اتَّقُوا الظُّلمَ فَإِنَّ الظُّلمَ ظُلُمَاتٌ يَومَ القِيَامَةِ ». أَخرَجَهُ مُسلِمٌ في صحيحه.
وَكَمَا أَمَرَ ـ تَعَالى ـ عِبَادَهُ بِالعَدلِ في الأَحكَامِ
وَالأَفعَالِ ، فَقَد أَوجَبَ عَلَيهِمُ العَدلَ في الأَقوَالِ فَقَالَ : {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ للهِ
وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم أَوِ الوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ إِنَّ يَكُنْ
غَنِيًّا أَو فَقِيرًا فَاللهُ أَولى بهمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن
تَعدِلُوا } [النساء:135]
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {وَإِذَا قُلتُم فَاعدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُربى وَبِعَهدِ اللهِ أَوفُوا} [الأنعام :152]
بَل إِنَّهُ في الحَالِ الَّتي تَبغِي فِيهَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤمِنِينَ
عَلَى أُخرَى ، فَإِنَّ الإِصلاحَ بَينَهُمَا يَجِبُ أَن يَكُونَ
بِالقِسطِ وَالعَدلِ ، بِلا جَورٍ عَلَى الطَّائِفَةِ الظَّالمةِ وَلَو
جَارَت وَتَجَاوَزتَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : { وَإِن
طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا فَإِن
بَغَت إِحدَاهُمَا عَلَى الأُخرَى فَقَاتِلُوا الَّتي تَبغِي حَتَّى
تَفِيءَ إِلى أَمرِ اللهِ فَإِن فَاءَت فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا بِالعَدلِ
وَأَقسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ} [الحجرات :9]
بَل وَمِمَّا هُوَ أَبلَغُ مِن ذَلِكَ وَأَظهَرُ في مَحَبَّتِهِ ـ
سُبحَانَهُ ـ لِلعَدلِ أَن أَوجَبَهُ عَلَى المُؤمِنِينَ حَتَّى مَعَ
أَعدَائِهِم ، فَقَالَ : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسطِ
وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلاَّ تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ
أَقرَبُ لِلتَّقوَى وَاتَّقُوا اللهَ } [المائدة:2]
وَإِذَا كَانَ العَدلُ مَطلُوبًا مِن جَمِيعِ النَّاسِ مَعَ بَعضِهِم ،
وَعَلَيهِ تَقُومُ حَيَاتُهُم وَتُبنى مَصَالِحُهُم ، فَإِنَّهُ لا أَجمَلَ
مِنَ العَدلِ إِذَا جَاءَ مِمَّن هُوَ قَادِرٌ عَلَى الظُّلمِ ، نَعَم ،
لا أَكمَلَ مِن عَدلِ الأَئِمَّةِ وَالوُلاةِ ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِمَا
يُنزِلُهُ اللهُ ـ تَعَالى ـ بِسَبَبِ عَدلِهِم مِنَ الخَيرِ وَالبَرَكَةِ ،
وَلِمَا يَبُثُّهُ عَلَى أَيدِيهِم إِن عَدَلُوا مِن أَمنٍ في البِلادِ
وَطُمَأنِينَةٍ في قُلُوبِ العِبَادِ ، وَمِن ثَمَّ فَقَد بَيَّنَ ـ صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَضِيلَةَ الإِمَامِ العَادِلِ ، وَأَخبَرَ
عَمَّا أَعَدَّهُ ـ سُبحَانَهُ ـ لَهُ مِنَ الأَجرِ في أَحَادِيثَ
مُتَعَدِّدَةٍ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : « سَبعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ ، يَومَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ : إِمَامٌ عَادِلٌ ».الحَدِيثَ ، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ ،
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : « ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعوَتُهُم : الإِمَامُ العَادِلُ ، وَالصَّائِمُ حَتى يُفطِرَ ، وَدَعوَةُ المَظلُومِ ». الحَدِيثَ رَوَاهُ أَحمَدُ وَصَحَّحَهُ أَحمَدُ شَاكِر .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : « المُقسِطُونَ عِندَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِن نُورٍ عَن يَمِينِ الرَّحمَنِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ ». رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ في بَعضِ خُطَبِهِ : « أَصحَابُ
الجَنَّةِ ثَلاثَةٌ : إِمَامٌ مُقسِطٌ مُصَّدِّقٌ مُوَفَّقٌ ، وَرَجُلٌ
رَحِيمٌ رَقِيقُ القَلبِ بِكُلِّ ذِي قُربى وَمُسلِمٍ ، وَرَجُلٌ عَفِيفٌ
فَقِيرٌ مُصَّدِّقٌ» رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
بَل لَقَد عَدَّ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ إِجلالَ الإِمَامِ
العَادِلِ مِن إِجلالِ اللهِ ـ تَعَالى ـ وَتَعظِيمِهِ فقَالَ : « إِنَّ مِن
إِجلالِ اللهِ إِكرَامَ ذِي الشَّيبَةِ المُسلِمِ ، وَحَامِلِ القُرآنِ
غَيرِ الغَالي فِيهِ وَلا الجَافي عَنهُ ، وَإِكرَامَ ذِي السُّلطَانِ
المُقسِطِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
وَفي المُقَابِلِ فَقَد عَدَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ الظَّلَمَةَ المُتَسَلِّطِينَ مِن أَهلِ النَّارِ فَقَالَ : « صِنفَانِ
مِن أَهلِ النَّارِ لم أَرَهُمَا : قَومٌ مَعَهُم سِيَاطٌ كَأَذنَابِ
البَقَرِ يَضرِبُونَ بها النَّاسَ ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ
مُمِيلاتٌ مَائِلاتٌ» الحَدِيثَ ، أَخرَجَهُ مُسلِمٌ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّهُ لَمَّا عَمَّ العَدلُ في الرَّعِيلِ
الأَوَّلِ مِن أَئِمَّةِ المُسلِمِينَ ، كَانَتِ المَحَبَّةُ بَينَ
المُسلِمِينَ سَائِدَةً ، وَالخَيرَاتُ في الرَّعِيَّةِ نَازِلَةً ،
وَالبَرَكَاتُ في المُجتَمَعاتِ مَلحُوظَةً ، لَقَد كَانَ أُولَئِكَ
الرَّعِيلُ الأَوَّلُ مِنَ الوُلاةِ وَالأُمَرَاءِ عَلَى خَيرِ مَا كَانَ
صَاحِبُ وِلايَةٍ ، عَدَلُوا بَينَ النَّاسِ في القَضَايَا ، وَسَاوَوا
بَينَهُم في العَطَايَا ، حَفِظُوا لِرَعَايَاهُم حُقُوقَهُم وَأَعطَوهُم
مَا لَهُم ، فَبَادَلَهُمُ النَّاسُ حُبًّا بِحُبٍّ وَعَدلاً بِعَدلٍ
ومَحَضُوهُم أَنفُسَهُم ، وَبَذَلُوا لَهُم ثَمَرَةَ قُلُوبِهِم وَمُهَجَ
أَفئِدَتِهِم ، فَأَعطَوهُم مَا لَهُم مِن حَقِّ السَّمعِ وَالطَّاعَةِ ،
وَنَصَحُوا لَهُم وَدَافَعُوا عَنهُم بِأَروَاحِهِم وَأَجسَادِهِم ،
فَكَانَتِ الدَّولَةُ الإِسلامِيَّةُ ظَاهِرَةً مَنصُورَةً ، مَرفُوعَةَ
الرَّايَاتِ عَالِيَةَ الرُّؤُوسِ ، وَلَمَّا تَوَلَّتِ القُرُونُ
المُفَضَّلَةُ الأُولى ، كَانَتِ الدُّوَلُ مَعَ رَعَايَاهَا في مَدٍّ
وَجَزرٍ ، وَاختَلَفَ الأُمَرَاءُ وَالوُلاةُ عَدلاً وَجَورًا ، فَكَانَ
مِنهُمُ الخَيِّرُونَ العَادِلُونَ سِنِينَ عَدَدًا ، وَكَانَ مِنهُمُ
الأَشرَارُ الظَّالِمُونَ عُقُودًا وَمُدَدًا ، وَمِن ثَمَّ اختَلَفَت
حَالُ الدَّولَةِ الإِسلامِيَّةِ قُوَّةً وَضَعفًا ، وَتَبَايَنَت
أَوضَاعُهَا غَلَبَةً وَانهِزَامًا ، حَتَّى وَصَلَ النَّاسُ إِلى هَذَا
العَصرِ الَّذِي اشتَدَّت فِيهِ غُربَةُ الدِّينِ ، وَابتُعِدَ كَثِيرًا
عَنِ الحُكمِ بما أَنزَلَهُ رَبُّ العَالمِينَ ، فَأَصبَحَ كَثِيرٌ مِنَ
المُسلِمِينَ يَعِيشُونَ غُربَةً وَهُم في أَوطَانِهِم وَبَينَ أَهلِيهِم
وَإِخوَانِهِم ، حُورِبُوا في دِينِهِم ، وَاستُبِيحَت حُرُمَاتُهُم ،
وَتُجُسِّسَ عَلَيهِم في عِبَادَاتِهِم ، وَرُوقِبَت حَرَكَاتُهُم
وَسَكَنَاتُهُم ، وَفُرِضَت عَلَيهِم عَادَاتُ الكُفَّارِ فَرضًا ،
وأُطِرُوا عَلَى البَاطِلِ أَطرًا ، وجُوِّعُوا بَعدَ ذَلِكَ وَاسَتُؤثِرَ
بِالأَموَالِ دُونَهُم ، وَهُضِمُوا حُقُوقَهُم وَضُيِّقَ عَلَيهِم في
أَرزَاقِهِم ، فَعَاشُوا مُصِيبَتَينِ عَظِيمَتَينِ تَعَوَّذَ مِنهُمَا
النَّبيُّ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مُصِيبَةُ الإِبعَادِ عَنِ
الدِّينِ ، وَمُصِيبَةُ الفَقرِ وَالقِلَّةِ ، نَعَم ، لَقَد عَاشَت
كَثِيرٌ مِنَ الشُّعُوبِ الإِسلامِيَّةِ غُربَةً شَدِيدَةً ، وَاقتَادَهُمُ
الحُكَّامُ الظَّلَمَةُ بِالقُوَّةِ وَالقَسوَةِ ، حَتَّى عَادَ
المَظلُومُ يَصرُخُ فَلا يَجِدُ مُجِيبًا ، وَحَتَّى عَادَ المَلهُوفُ
يَستَغِيثُ فَلا يَلقَى مُغِيثًا ، فَنَشَأَت فَجوَةٌ سَحِيقَةٌ بَينَ
الحُكَّامِ وَالشُّعُوبِ ، جَعَلَت تِلكَ الشُّعُوبَ تَفُورُ غَلَيَانًا ،
فَلَم يُستَنكَرْ أَن تَخذُلَ حُكَّامَهَا مَرَّةً بَعدَ أُخرَى ،
وَأَصبَحَ مِنَ الطَبِيعِيِّ أَن تَتَحَوَّلَ تِلكَ الجَمَاهِيرُ مِن
وَلائِهَا لرَئِيسِهَا الأَوَّلِ ، وَتُسرِعَ بِالوَلاءِ لِمَن يَنقَلِبُ
عَلَيهِ ، وَأَصبَحَ النَّاسُ يَألَفُونَ مَنظَرًا لا تَقبَلُهُ العُقُولُ
الرَّاجِحَةُ وَلا تَستَسِيغُهُ الفِطَرُ السَّلِيمَةُ ، فَضلاً عَنِ
الدِّيَانَةِ وَمَحَاسِنِ الأَخلاقِ وَدَوَاعِي المُرُوءَةِ ، إِنَّهُ
مَنظَرُ ذَلِكَ الرَّئِيسِ المُتَبَجِّحِ المُتَكَبِّرِ الظَّالِمِ ،
تَهتَزُّ لأَمرِهِ القُلُوبُ ، وَتَرتَعِدُ لِنَهيِهِ الأَفئِدَةُ ،
وَيَخطُبُ الكَثِيرُونَ وُدَّهُ خَوفًا مِن بَطشِهِ وَسُلطَتِهِ ،
وَيَتَلَمَّسُونَ رِضَاهُ خَشيَةَ عُقُوبَتِهِ وَنِقمَتِهِ ، وَتَأتي
أَفوَاجُ المُتَزَلِّفِينَ إِلَيهِ فَتَركَعُ بَينَ يَدَيهِ ، وَتُحَيِّيهِ
في الشَّوَارِعِ وَتَهتِفُ بِاسمِهِ في السَّاحَاتِ ، وَلا تَألُو في
التَّقَرُّبِ إِلَيهِ بِكُلِّ وَسَائِلِ التَّقَرُّبِ ، ثُمَّ لا يُفَاجَأُ
وَدُونَ سَابِقِ إِنذَارٍ ، إِلاَّ وَتِلكَ الشُّعُوبُ الهَادِئَةُ
الوَادِعَةُ ، تَتَحَوَّلُ بَينَ عَشِيَّةٍ وَضُحَاهَا إِلى أُسُودٍ
ثَائِرَةٍ وَوُحُوشٍ كَاسِرَةٍ ، وَتَنقَلِبُ بُحُورًا مِنَ الغَضَبِ
هَادِرَةً مَائِرَةً ، فَتَرمِيهِ بِحُمَمٍ مِن غَيظِهَا ، وَتَصُبُّ
عَلَيهِ جَامَّ غَضَبِهَا ، فَإِذَا الَّذِي كَانَ بِالأَمسِ يُهَدِّدُ
وَيَتَوَعَّدُ ، يَستَجدِي رَعِيَّتَهُ أَن يُخَفِّفُوا مِن ثَورَتِهِم
عَلَيهِ وَيَعُودُوا إِلى رُشدِهِم ، وَلَكِنْ هَيهَاتَ وَقَد فَاتَ
الأَوَانُ وَتَخَلَّى الجَمِيعُ عَنهُ ، لَقَد أَبعَدَ الظُّلمُ عَنهُ
كُلَّ الأَصدِقَاءِ ، وَلم يُبقِ الجَورُ لَهُ أَعوَانًا وَلا أَولِيَاءَ
أَوفِيَاءَ ، وَفَرَّقتِ المَصلَحَةُ عَنهُ كُلَّ مُنَافِقٍ كَانَ
يَتَقَرَّبُ إِلَيهِ مِن أَجلِهَا ، فَمَضَى إِلى عَالِمِ الضَّيَاعِ
وَحِيدًا ، وَخَرَجَ مِن بَلَدِهِ مُشَرَّدًا طَرِيدًا ، لا تَذكُرُهُ
الأَلسِنَةُ بِخَيرٍ وَلا تُثني عَلَيهِ ، وَلا تَأَسَى عَلَيهِ القُلُوبُ
وَلا تَأَسَفُ عَلَيهِ الشُّعُوبُ ، لَكِنَّهَا أَنَّاتٌ المَظلُومِينَ
تُنَغِّصُ عَلَيهِ عَيشَهُ ، وَدَعَوَاتُهُم تُطَارِدُهُ قَائِمًا قَاعِدًا
، وَلَعَنَاتُهُم تُلاحِقُهُ حَيًّا وَقَد لا تَنقَطِعُ عَنهُ مَيِّتًا ،
فَسُبحَانَ مَن أَحيَا بِالعَدلِ القُلُوبَ وَأَنَارَ بِهِ الصُّدُورَ ،
فَانشَرَحَت لأَئِمَّةِ العَدلِ وَأَحَبَّتهُم ، وَوَالَتهُم وَأَطَاعَتهُم
وَدَعَت لَهُم ، وَضَيَّقَ بِالظُّلمِ صُدُورَ المَظلُومِينَ وَقَسَّى
بِهِ قُلُوبَهُم ، فَلَعَنُوا وُلاةَ الجَورِ وَأَبغَضُوهُم وَقَاتَلُوهُم ،
وَصَدَقَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ قَالَ : « خِيَارُ
أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُم وَيُحِبُّونَكُم ، وَيُصَلُّونَ
عَلَيكُم وَتُصَلُّونَ عَلَيهِم ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ
تُبغِضُونَهُم وَيُبغِضُونَكُم ، وَتَلعَنُونَهُم وَيَلعَنُونَكُم» الحَدِيثَ ، رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : { وَلا
تَحسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعمَلُ الظَّالمونَ إِنَّمَا
يُؤَخِّرُهُم لِيَومٍ تَشخَصُ فِيهِ الأَبصَارُ . مُهطِعِينَ مُقنِعِي
رُؤُوسِهِم لا يَرتَدُّ إِلَيهِم طَرفُهُم وَأَفئِدَتُهُم هَوَاءٌ .
وَأَنذِرِ النَّاسَ يَومَ يَأتِيهِمُ العَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعوَتَكَ
وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَم تَكُونُوا أَقسَمتُم مِن قَبلُ مَا لَكُم
مِن زَوَالٍ . وَسَكَنتُم في مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُم
وَتَبَيَّنَ لَكُم كَيفَ فَعَلنَا بِهِم وَضَرَبنَا لَكُمُ الأَمثَالَ .
وَقَد مَكَرُوا مَكرَهُم وَعِندَ اللهِ مَكرُهُم وَإِن كَانَ مَكرُهُم
لِتَزُولَ مِنهُ الجِبَالُ . فَلا تَحسَبَنَّ اللهَ مُخلِفَ وَعدِهِ
رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [إبراهيم 42-47]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في ظِلِّ العَدلِ يَعِيشُ الإِنسَانُ آمِنًا في
سِربِهِ ، مُطمَئِنًّا عَلَى أَهلِهِ وَمَالِهِ ، عَابِدًا رَبَّهُ في
هُدُوءِ نَفسٍ وَرَاحَةِ بَالٍ ، مُؤَدِّيًا شَعَائِرَ دِينِهِ
بِحُرِّيَّةٍ تَامَّةٍ ، يُعطِي مَا عَلَيهِ كَامِلاً ، وَيَأخُذُ مَا لَهُ
وَافيًا ، وَمِن ثَمَّ يَشعُرُ بِانتِمَائِهِ الحَقِيقِيِّ لِمُجتَمَعِهِ
الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ ، وَفي ظِلِّ هَذَا الانتِمَاءِ يَعِيشُ المُجتَمَعُ
مَتِينًا مُتَمَاسِكًا ، شَدِيدًا عَلَى الأَعدَاءِ عَصِيًّا عَلَى
المُتَرَبِّصِينَ ، لا يَستَطِيعُ النَّيلَ مِنهُ أَحَدٌ بِسُهُولَةٍ ؛
لأَنَّ كُلَّ فَردٍ فِيهِ يَعلَمُ أَنَّهُ إِنْ لم يُدَافِعْ عَن
مُجتَمَعِهِ ، فَإِنَّ الأَعدَاءَ سَيَسُومُونَهُ الذُّلَّ وَالهَوَانَ ،
وَمِن ثَمَّ يَقِفُ كُلُّهُ في مُوَاجَهَةِ أَيِّ تَجَاوُزٍ لِلنِّظَامِ
أَو خُرُوجٍ عَلَى الأَحكَامِ ، وَأَمَّا حِينَ يَنتَشِرُ الظُّلمُ
وَتَعُمُّ الأَثَرَةُ ، وَلا يَجِدُ صَاحِبُ الحَقِّ مَلاذًا ، فَإِنَّ
الفَردَ لا يَشعُرُ لِذَلِكَ المُجتَمَعِ بِأَيِّ انتِمَاءٍ ، وَمِن ثَمَّ
يَعِيشُ المُجتَمَعُ مُتَنَافِرًا مُتَبَاغِضًا ، يَتَحَيَّنُ كُلَّ
فُرصَةٍ لِلإِيقَاعِ بِكُبَرَائِهِ ، وَيَفرَحُ بِكُلِّ صَيحَةٍ عَلَيهِم
لَعَلَّهَا تَكُونُ المُخَلِّصَةَ لَهُ مِمَّا يُعَانِيهِ مِن ظُلمٍ ،
وَمِن ثَمَّ يَهُونُ عَلَى الأَعدَاءِ اجتِذَابُهُ إِلَيهِم .
إِنَّ الدَّولَةَ في الإِسلامِ لم تَكُنْ يَومًا هِيَ المَسؤُولَةَ
وَحدَهَا عَنِ الأَمنِ وَأَخذِ النَّاسِ بِالنِّظَامِ ، غَيرَ أَنَّهَا
بِعَدلِهَا في الرَّعِيَّةِ وَحُكمِهَا بِالسَّوِيَّةِ ، أَشعَرَت كُلَّ
وَاحِدٍ مِنهُم بِأَنَّ هَذَا المُجتَمَعَ مُجتَمَعُهُ ، وَأَنَّهُ
يَستَحِقُّ أَن يَعِيشَ فِيهِ وَيَنتَمِيَ إِلَيهِ وَيُدَافِعَ عَنهُ ،
وَلَقَد فَهِمَتِ الرَّعِيَّةُ في المُجتَمَعِ المُسلِمِ المَحكُومِ
بِالعَدلِ قَولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : « اُنصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَو مَظلُومًا »
رواه البخاري في صحيحه عن أنس ، فَرَدُّوا الظَّالِمَ عَن ظُلمِهِ ،
وَأَخَذُوا لِلمَظلُومِ حَقَّهُ ، فَنَصَرَ بَعضُهُم بَعضًا ، وَعَاشُوا
مُتَوَاصِينَ بِالحَقِّ مُتَوَاصِينَ بِالصَّبرِ ، مُلتَزِمِينَ
بِالنَّصِيحَةِ مُقَاوِمِينَ لِلمُنكَرَاتِ ، فَأَفلَحُوا بِذَلِكَ
وَأَخرَجُوا أَنفُسَهُم مِنَ الخُسرَانِ الَّذِي مُنِيَ بِهِ كَثِيرٌ مِن
بَني الإِنسَانِ .
وَإِنَّ أَشَدَّ مَا يَجِبُ أَن تَحذَرَهُ الأُمَّةُ اليَومَ وَتَخَافَهُ
تحقيقًا لِلعَدلِ وَاجتِنَابًا لِلظُّلمِ ، مَا بُلِيَت بِهِ مِن ثَنَاءِ
المُنَافِقِينَ الكَاذِبِ وَقَلبِهِم لِلحَقَائِقِ ، وَمُحَاوَلَتِهِم
تَغيِيبَ الوُلاةِ عَنِ الوَاقِعِ ، وَآخَرُونَ مِن وَرَائِهِم مِن
بِطَانَةِ سُوءٍ فَاسِدَةٍ ، تَحُولُ بَينَ الوُلاةِ وَبَينَ الاستِمَاعِ
لِنَصَائِحِ الأُمَنَاءِ المُخلِصِينَ وَشَكَاوَى المَظلُومِينَ .
وَإِنَّ مَا يَحدُثُ اليَومَ في بِلادٍ عَدِيدَةٍ مِن ثَورَاتٍ عَارِمَةٍ
تَعصِفُ بِرُؤَسَاءِ الدُّوَلِ وَتُسقِطُ عُرُوشَهُم ، وَتَقتَلِعُهُم مِن
كَرَاسِيِّهِم وَتَطرُدُهُم مِن أَوطَانِهِم شَرَّ طِردَةٍ ، إِنَّهَا
لَتُؤَكِّدُ لِمَن كَانَ لَهُ قَلبٌ أَنَّ القُوَّةَ للهِ وَحدَهُ ،
بِيَدِهِ المُلكُ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَيَنزِعُهُ ممَّن يَشَاءُ ،
وَيُعِزُّ مَن يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَن يَشَاءُ ، وَأَنَّ مَرتَعَ الظُّلمِ
وَخِيمٌ وَعَاقِبَتَهُ سَيِّئَةٌ ، عَن أَبي مُوسَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «
إِنَّاللهَ
لَيُملِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لم يُفلِتْهُ " قَالَ : ثُمَّ
قَرَأَ " وَكَذَلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ
إِنَّ أَخذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ». أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ ، وَفي الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ في الصحيح عن أبي هريرة : « مَن عَادَى لي وَلِيًّا فَقَد آذَنتُهُ بِالحَربِ».
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ « ثَلاثُ دَعَوَاتٍ مُستَجَابَاتٌ : دَعوَةُ المَظلُومِ ، وَدَعوَةُ المُسَافِرِ ، وَدَعوَةُ الوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ».
فَاتَّقُوا اللهَ وَانصَحُوا لِمَن وَلاَّهُ اللهُ أَمرَكُم ، وَمُرُوا
بِالمَعرُوفِ وَانهُو عَنِ المُنكَرِ ، وَاعدِلُوا فِيمَا بَينَكُم يُوَلِّ
اللهُ عَلَيكُم خِيَارَكُم.
الأحد يونيو 05, 2011 4:25 pm من طرف محمد عبد المغني
» ألمانيا تحث مجلس الأمن الدولي على معالجة الوضع في اليمن في أسرع وقت ممكن
الإثنين مايو 09, 2011 5:14 pm من طرف مروان عبدالمغني
» فارس مناع : نؤكد وقوفنا إلى جانب الثورة .. وصعده جزء لا يتجزأ من اليمن الموحد
الإثنين مايو 09, 2011 5:12 pm من طرف مروان عبدالمغني
» ائتلاف الشهيد على عبد المغني
الأحد مايو 01, 2011 6:19 am من طرف محمد نبيل عبدالمغني
» ائتلاف الشهيد على عبد المغني
الأحد مايو 01, 2011 6:08 am من طرف محمد نبيل عبدالمغني
» رد الاحساس على زيرالمحبه
السبت أبريل 23, 2011 10:15 pm من طرف مروان عبدالمغني
» ساحة التغيير : يمني يصنع طائرة صغيرة استعداداُ لرحيل الرئيس صالح ( صور )
الأربعاء أبريل 20, 2011 5:01 pm من طرف محمد عبد المغني
» اجتماع استثنائي لدول مجلس التعاون في ابو ظبي لبحث أوضاع اليمن
الأربعاء أبريل 20, 2011 4:59 pm من طرف محمد عبد المغني
» مجلس الأمن الدولي يعقد أول اجتماعا له حول الأزمة اليمنية
الأربعاء أبريل 20, 2011 4:57 pm من طرف محمد عبد المغني